أعاد بحث جيني جديد إشعال الجدل حول أصول شعب بولينيزيا، حيث تشير النتائج الحديثة إلى أن البولينيزيين يرتبطون وراثيًا بشكل أوثق بشعوب جنوب شرق آسيا، ولا سيما الإندونيسيين، بدلاً من التايوانيين كما كان يُعتقد سابقًا. وتُعد هذه النتائج تحديًا للنظرية القديمة التي تفترض أن أصل الهجرة البولينيزية يعود إلى تايوان، مما يُسلّط الضوء على الأرخبيل الإندونيسي كمصدر محتمل أكثر منطقية.
اكتشف الباحثون أن علامة وراثية تُعرف باسم H17، والتي تنتشر بين شعوب ميلانيزيا في جنوب غرب المحيط الهادئ، غير موجودة تمامًا لدى البولينيزيين. ويُشير ذلك إلى أن المساهمة الجينية لميلانيزيا في البولينيزيين ضئيلة للغاية، وربما معدومة، وهو ما يتعارض مع النظريات السابقة التي رأت أن البولينيزيين هم نتاج خليط بين مهاجري أوسترونيسيا وسكان ميلانيزيا الأصليين.
علاوة على ذلك، لم يجد الباحثون أي مساهمة أوروبية كبيرة في التركيبة الجينية للبولينيزيين. ومن خلال تحليل الكروموسوم Y، الذي يُورث عبر السلالة الذكورية فقط، تبيّن أن الجذور الأساسية لأصل البولينيزيين تعود على الأرجح إلى جنوب شرق آسيا، وخاصة جزر إندونيسيا، وليس إلى تايوان كما كان يُعتقد سابقًا.
كانت الدراسات السابقة التي دعمت نظرية الأصل التايواني تستند إلى الحمض النووي الميتوكوندري، والذي يُورّث عبر السلالة الأنثوية. ويثير التباين في النتائج بين هذه الدراسات ودراسة الكروموسوم Y تساؤلات جديدة حول أنماط الهجرة في العصور القديمة، وخاصة احتمال وجود اختلافات بين أنماط هجرة الذكور والإناث.
ويقترح بعض العلماء أن هذا التباين قد يكون ناتجًا عن اختلاف طرق أو توقيتات هجرة النساء مقارنة بالرجال. فقد تكون النساء من تايوان قد اندمجن مع مجتمعات محلية في جنوب شرق آسيا، بينما لعب الرجال دورًا أكبر في الاستكشاف البحري والهجرة إلى الجزر النائية في المحيط الهادئ.
في هذا السياق، تبرز أهمية إندونيسيا كمحطة محورية. فموقعها الجغرافي على الطرق البحرية التاريخية يجعلها مرشحًا قويًا كنقطة انطلاق للهجرات الأوسترونيسية التي وصلت لاحقًا إلى عمق المحيط الهادئ. ويُرجّح أن تكون إندونيسيا هي مركز الانطلاق لرحلات الهجرة العظيمة التي أنشأت الحضارات البولينيزية.
وأكد فريق البحث أن النتائج تشير إلى الأرخبيل الإندونيسي كمصدر أكثر احتمالًا لأصل البولينيزيين مقارنة بتايوان. وبالمعنى الوراثي، فإن البولينيزيين المعاصرين قد يكونون أقرب للإندونيسيين من الشعوب التايوانية القديمة.
تفتح هذه الاكتشافات فصلًا جديدًا في فهمنا لتاريخ هجرة الإنسان عبر آسيا والمحيط الهادئ. وإذا ثبت أن إندونيسيا هي نقطة الانطلاق الفعلية، فسيعزز ذلك السردية التي تمجد دور البحارة الأوسترونيسيين من المنطقة كرواد حقيقيين في تاريخ الاستكشاف البشري.
كما أن هذه الدراسة تُعزز الروابط التاريخية والثقافية بين إندونيسيا وجزر المحيط الهادئ. فعلى الرغم من ملاحظة أوجه التشابه اللغوية والثقافية سابقًا، إلا أن الأدلة الوراثية تضيف بُعدًا علميًا جديدًا يعمق هذه الصلة.
ورغم الحاجة إلى مزيد من البحث لتأكيد هذه النتائج، إلا أن هذه الدراسة تغيّر مسار النقاش حول أصول البولينيزيين وتدعو إلى إعادة تقييم النظريات القديمة. وقد تكون إندونيسيا تلعب دورًا محوريًا في قصة نشأة شعوب المحيط الهادئ أكثر مما كان يُعتقد سابقًا.
بالنسبة لإندونيسيا، فإن لهذه الدراسة بُعدًا علميًا وثقافيًا. فهي تُعزز فكرة أن الأرخبيل لم يكن فقط هامشيًا في آسيا، بل كان مركزًا رئيسيًا في قصة الاستكشاف والهجرة عبر المحيط الهادئ.
وفي ظل تغير الديناميكيات الجيوسياسية المعاصرة، تكتسب هذه الاكتشافات أهمية استراتيجية. إذ يُمكن لإندونيسيا أن تبرز كجسر ثقافي وتاريخي نحو المحيط الهادئ، ليس فقط عبر موقعها الجغرافي بل أيضًا من خلال روابطها الوراثية القديمة.
كما تتيح هذه الدراسة فرصًا جديدة للتعاون البحثي بين إندونيسيا ودول المحيط الهادئ، من خلال برامج تعليمية وثقافية. ويمكن أن تكون الوراثة جسرًا حديثًا لإعادة ربط المجتمعات التي جمعتها روابط قديمة منذ آلاف السنين.
والأهم من ذلك، أن هذه الاكتشافات تُلهم الجيل الجديد من الإندونيسيين ليفهموا ويعتزوا بتراثهم البحري العريق. فالأدلة تثبت أن أسلافهم لم يكونوا مجرد سكان جزر، بل مستكشفين عظماء ساهموا في تعمير أوسع مناطق الأرض النائية.
إن قصة الهجرة البشرية هي حكاية شجاعة ومرونة ورؤية. ومع التقدم العلمي في علم الوراثة، يظهر دور إندونيسيا في هذه القصة العظيمة بشكل أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
قد يكون البولينيزيون اليوم موزعين في أرجاء المحيط الهادئ، لكن جذورهم، وراثيًا وتاريخيًا، أقرب إلى شواطئ إندونيسيا. وقد يكون البحر الذي فرقهم في الزمان، هو ذاته الذي سيجمعهم اليوم من خلال اكتشافات العلم.
ومن خلال هذه البصمات الجينية، تتجلى رواية قوية: قصة البحارة الإندونيسيين القدامى، الذين ما زال إرثهم حيًا في دماء وثقافات جزر المحيط الهادئ.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar